قلاقل | هذا الوقت سوف يمضي ..

قلاقل | S02E02

قلتُ ٣١: في خمسٍ بقين على آذار (مارس) من السنة السابعة عشرة وألفين للميلاد؛ طردني قاضي أول جلسة قضائية أحضرها بصفتي محامي متدرب من قاعة المحكمة، مقدّراً فضيلته -وله حفظه الله كامل الصلاحية في ذلك- أن قضايا الأحوال الشخصية تستوجب الستر حتى عن الوكيل الشرعي.

وأنا واقفٌ بالباب، والمراجعين يتهافتون على الدائرة القضائية التي طردني قاضيها تهافت الفراش على الشهاب، ولم أكن لأرضى من الغنيمة بالإياب، وعيني ترى العجب العجاب، وعقلي بين بناءٍ وإعراب؛ نزلني الوحي فأصبت القافية، ثم كتبت غزليّتي الوحيدة في ديواني الذي لن أنشره أسوةً بإخوته الحجج الواهية والأليف في فن التجديف وغيرهم، فأنشدت:

أبصرتُ في أحدِ المحاكم مرّةً
غَيْداً تُعِدُّ صحائف الدعواتِ
فرأيتُها تدنو إلى نظّارها
وتُبلِّغُ الأخصام بالجلساتِ
وتقول إنّ العقد بين موكلّي
وموكّل الأخصام عقد أذاةِ
وأنا أرى ذاك الوعيد مزمجراً
أبصرتُ قذلتها على الوجناتِ
فعلمت أنّي لا محالةَ ميّتٌ
فحرابة الجاني تُزيلُ حياتي
لكنني أرجأتُ رفع قضيّتي
حتى تزيدَ قرائنُ الإثباتِ
وسألتُها ما الفرقُ بين أذيّتي
وأذيّة الجانيِّ في السطواتِ؟
هو إن أراد المالَ نوعاً في ملا
أو إن أراد معيّناً بالذاتِ
يسطو على ملّاكها بسلاحه
ويَكِرُّ ثم يَفِرُّ دون فواتِ
وأنا المعذَّبُ في هوى رمشٍ بدى
مجني عليّ وما لنا مدعاةِ
إنْ كُنتِ تنويها بعمدٍ في أذى
فأنا مسامِحُكِ ليوم مماتي
أسقطتُ حقي في النيابةِ كلِّهِ
لكن حقي في هواكِ لآتي

وصدقاً لا أدري لماذا نزل عليّ وحي الغزل يومها؟! خاصةً أن الموقف موقف هجاء، والمُتغزَّل بها شخصية من وحي الخيال ولا وجود لها في أرض الواقع! ربما لأنها ليست أول مرة يجري فيها طردي، إذ حاولتُ قبلها الدخول على رئيس دائرة تحقيق برفقة المحامي الذي أتدرّب لديه فقال صاحب الفضيلة: “واحد منكم يدخل بس”. وبالمناسبة؛ وبتأمل موقف فضيلة رئيس دائرة التحقيق في قضايا الاعتداء على المال في حينه؛ أستطيع التأكيد بأنها كانت أول مرة أتعرّض فيها للذكاء العاطفي في حياتي المهنية.

“أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ”

سورة الشعراء (٢٢٥).

قلتُ ٣٢: لأحد أصدقائي نظرية رائعة اسمها نظريّة الدقّاق، والقاف في هذا المصطلح ليست قافاً بل قيف، والقيف (أو القاف المعقودة) حرفٌ من الحروف الإضافية في الأبجدية العربية، يضاف لترجمة بعض الأحرف الأجنبية تسهيلاً لنطقها نطقاً صحيحاً، مثل ذلك الصوت الأعجمي لحرف القاف الذي ننطقه في كلمات مثل: جوجل (محرك بحث) أو جولد (معدن) وغيرها، وإن كنّا نستخدم حرف الجيم في الغالب ولا نرسم صوت القيف بحرف القاف الفصحى منقوطةً بنقطتين من تحت كما رأى مجمع اللغة الافتراضي.

وحتى لا أستطرد، فإن نظرية الدقّاق هذه كان صديقي قد استلهمها من بعض كبار السن في منطقته التي ينتمي لها في جنوب المملكة، حيث يجنح البعض منهم عند سماع صوت آلة الحفر (الدقّاق) إلى الخروج مباشرةً من المنزل ليستوضح ويتأكد من عدم اعتداء الحافر على حدود ملكيّة أرضه، ثم يظل بعد تسجيل دخوله الواضح لعين الحافر؛ منصتاً ومتجهّماً ومراقباً للعمّال وما يعملون، حتى يفرغوا بسلام ثم يعود إلى طبيعته، في الوقت الذي على الحافر -حتى يفرغ عمّاله- أن يضبط نفسه في مواجهة كبير السن، إذ أن أي تبرير أو نقاش أو حتى أي تصرّف سلبي آخر غير محسوب منه تُجاه كبير السن قد يصعّد من الموضوع إلى درجة خطيرة.

يقول صديقي: إن الإنسان المزاجي بطبيعته يتغير بلا سبب، ويحمّلك مسؤوليات لا شأن لك بها، وهو بذلك في مواجهتك مثل كبير السنّ في مواجهة الحافر عندما يشتغل الدقّاق، وهو عند النساء -أي الدقّاق- أكثر منه عند الرجال، وفي كلٍّ خير.

يقول أيضاً: لا تستوضح الدقّاق، دع الدقّاق يدقّ.

“جليلٌ دقَّ عن صفةِ اللسانِ
يمثِّلُهُ التوهُّمُ للعيانِ”

خالد الكاتب، أديب عبّاسي.

قلتُ ٣٣: ذات مرة كنتُ أتجادف الحديث مع أحد الزملاء، فشكوت له من مدير سابق لي -في تاريخه- كان يتعمَّد وضعي في مواقف محرجة مع الرؤساء الأعلى من كلينا، فجاملني زميلي واصفاً ذلك المدير بالحيوان، إلا أنّني لم أفرح بشتيمته، وأوضحتُ له وجهة نظري حيال الأمر، صحيح أنّهُ قد يرى البعض بأن المدير إنسان يصيب ويخطئ، وقد يرى البعض المتطرف أنّه حيوان، إلا أنّني أعتبر المدير شجرة من حيث الأصل، ينبت لك من حيث لا تحتسب، وقد يثمر، وقد لا يثمر، وقد يكون ثمره طيب، وقد لا يكون ثمره طيب، وقد يشفيك، وقد يمرضك، كل ذلك بأمر الله، فالمدير ليس إله.

اتّفقَ زميلي معي في رأيي، وسألني: هل تعرف نظرية الكريبتو؟ فأجبتُهُ: لا، ثم أبحر ..

يقول زميلي هذا: حينما يشعر الرئيس بالخطر من أحد مرؤوسيه جرّاء ارتفاع قيمة الأخير؛ يقوم الرئيس باتخاذ إجراءات إغراقية لتصحيح قيمة المرؤوس، تماماً كما يحدث في الكريبتو عندما ترتفع قيمة العملة الرقمية بشكل مفاجئ ثم يتم إغراقها بالتداول حتى تعود إلى القيمة التي من المفترض أن تكون عليها.

“إليكَ عنّي لستُ بأخيك، قد كُنتُ أخاكَ قبل أن تَلي”.

الصحابي الجليل أبو ذر رضي الله عنه.

قلتُ ٣٤:، رفع الآخرين ضرورة حتمية برأيي، ويشمل ذلك السيئين ومن تعتقد أنَّهم لا يستحقون الرفع، إذ ليس شرطاً أن ترفعهم للاحترام، فبإمكانك أن ترفعهم للنظر، ترفعهم للتأمل، ترفعهم كف، أو غير ذلك، اختر ما شئت فخيارات الرفع متنوعة دائماً.

“الدهر يرفع ثمّ يخفض تارةً
وبصرفه الإدبارُ والإقبالُ”

الأحنف العكبري، شاعر مملوكي.

قلتُ ٣٥: انتهى كلامي رحمني الله.

أضف تعليق