قلاقل | هذا الوقت سوف يمضي ..

قلاقل: الموسم الثاني!

قلتُ ٢٦:
إنّ القلاقل لا محالة عائدَة
ما بين قلقلةٍ تدومُ وبائدَة

ولربّما كتب الكريمُ قلاقلاً
خُطّت على عَجَلٍ فكانت رائدَة

وإذا هو اقَتَبَس القصائدَ مرةً
فهو الذي علِمَ الجميعُ قصائدَه

“كان علم قوم لم يكن لهم علمٌ أصحُّ منه”

عمر بن الخطاب عن الشعر العربي

قلتُ ٢٧: رغم العلاقة الجيدة التي تجمعني بالورش والصناعيات وكبار المستثمرين فيهما؛ فطالما كانت مشاكل السيارة مؤرقة لي، إذ أن سماع صوت غريب في السيارة كفيل بأن يكدّر مزاجي لكامل اليوم، بينما تأخذ كافة المشاكل الاخرى الشخصية والمهنية والاجتماعية وغيرها موقع الصفر على يسار الرقم الصحيح، أقول هذا وأنا الذي لا تتحرك سيارته الا ألف كيلو في الشهر كحد أقصى!

شاركتُ هذا الحديث مع مجدِّفٍ رائعٍ كان يعاني من الاحتراق الوظيفي، وهو يتصالح مع نفسه في ذلك، فاستلهم لوهلته نظرية السيارة التي جَدَفَها وهو يحرق سيجارته: الموظف كالسيارة، يستمر في أدائه وكفاءته العاليتين في السنين الخمس الاولى من حياته المهنية، ثم يبدأ بعدها في سلسلة طلبات مالية مستمرة ومكلفة ثم لا تُرضيه؛ حتّى لو تلبَّت.

وكلامُهُ دقيقٌ عميق، فالبشر كالسيارات فعلاً، منهم الذي يتحرّك بالدوس على وقوده ومكابحه، ومنهم الكهربائي، ومنهم المهجّن، ومنهم المسيّر عن بعد، ومنهم الذكي الذي يحلّل ويتعلّم ويتصرّف دون الرجوع إلى صانعه أو مالكه -حسب الحال-، ومنهم الصيني والالماني والياباني والامريكي وووو إلخ.

أعلم أن هذه القلقلة تفتقد إلى السياق نوعاً ما، لكنها أيضاً تجعلني استذكر قصة الحكيم المصري الذي التقيتُ به في رحلتي الأخيرة إلى القاهرة، التي سافرتُها مكرهاً مع رهطٍ مباركين، يومها قرّر أحدهم -وهو صديقٌ خبيرٌ بالشؤون المصرية- أن يوقف سائق تاكسي في دوارٍ بالغ الزحمة، ثم صعدنا سيارته.

رحّب بنا السائق ترحيباً حارّاً، وقد كان رجلاً ذا مهابة، ترى وقاره رأي العين، حسن المظهر، أنيق الملبس، شديد بياض الوجه، غزى الشيب حتى حواجبه، أزعُمُ أنّه أدرك أيام الملك فاروق، ثم انطلق وباشر بعكس السير المروري في الدوار بطريقة شجاعة لا تتوقعها وأنت ترى ذلك الهدوء العظيم، وذلك الصمت الحكيم.

أبهرني حقاً، وعلقت صورته في ذهني، لحظتها؛ تغشّاني ذلك الشعور الغريب الذي إن راودني وأنا أرى شخصاً ما؛ تيقّنت أنّني لن أنسى ملامحه، ولهذا لم أتردّد باستفتاح الحديث معه، فسألته وأنا أخشى أن تكون إجابته على طريقة الخضر عليه السلام: كيف لك أن تحافظ على هدوئك الكامل وأنت تقوم بهذه المغامرة الشرسة؟ فضحك وقال: يا بُني، لقد تعلّمت كتابة الشعر في هذه الشوارع، وعلى المرء أن لا يغضب من الازدحام المروري، حتى وإن شتمه أحد، أو أخطأ بحقه أحد، فهذه طبيعة الناس التي يجب أن نتعايش معها لاختلاف ظروفهم.

كان كلامه يسير في طريق الحكمة، وكانت السيارة التي أمامنا تسير في طريقها نحونا متدحرجةً لأن سائقها نسي أن يدوس المكابح، فنبّهت العم الحكيم الذي تجاهلني لأنّني قطعت كلامه، ثم اصطدمت بنا تلك السيارة.

نزل العم الحكيم من سيارته غاضباً غضباً شديداً، واتجه يجري بلياقة بدنية عالية لا تتناسب مع عمره نحو قائد تلك السيارة، لكنّ قائد تلك السيارة هرب؛ إذ تزامن الاصطدام مع تحرّك السير المروري، والعمّ الحكيم ينهره بصوتٍ عالٍ: “هنيئاً لأمك إن لحقتُ بك”، ثم عاد إلى سيارتنا ووجد أعيننا الستة تنظر إليه باحثةً عن تبرير، ثم قال: “أنا لست غاضباً من الازدحام، ولا من الحادث، أنا غاضبٌ من قلة الذوق”، وأضاف بلهجته المحلية: “طب اسمعوا دي قات معايا دلوقتي”، وقال قصيدة لا أذكر إلا مطلعها:

“الذوق لو اتعمل لفار
هيبقى سيّد كل الأنفار”

أبهتنا، وعمله هذا من عجيب الأعمال، وأعمال الناس كثيرةٌ مثيرة ..

“وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ”.

سورة المؤمنون (٣٦).

قلتُ ٢٨: مررتُ قبل سنوات بأزمة اقتصادية شبيهة بالكساد العظيم الذي أثّر على معظم الاقتصاديات الوطنية في جميع أنحاء العالم خلال عقد الثلاثينات من القرن الماضي على أعقاب انهيار بورصة وول ستريت عام ١٩٢٩ م، حينها لامني ثقة من الأخوة مستغرباً استمراري بالعمل لمدة طويلة من الزمن -رغم عدم رغبتي أو منفعتي- مع ثلة من الدهماء الذين احترمهم صدقاً خلال ساعات العمل الرسمية في ظل وجود وثيقة سارية تنظِّم العلاقة الوظيفية فيما بيننا، وذلك إعمالاً لنص القاعدة الشهيرة: “الأصل في أشخاص بيئة العمل أنهم من مكونات بيئة العمل، طابعة، باب، مكتب، مدير، كمبيوتر، هاتف، زميل، بطاقة، شجرة، وغيرها؛ حتّى يتبيّن خلاف ذلك”، حيث أن إعمال النصّ أولى من إهماله كما تعلمون، إلّا أنّني استمرّيتُ معهم وقتها لضرورة الحال، ومُقتضى المآل، وخشية القيل والقال، فردّ ذلك الصديق دفوعي بعبارةٍ موجعة أصاب بها مجدافي عندما لمزني بصاحب المعرفة الذي لم يستفِد من معرفته، ومدّعِ التخطيط الذي لا يُنفِّذ، فلم استطع يومها النوم إلّا بعد أن كتبت له هذه الأبيات:

ما كنتُ مثلَ العابرين • في فحصِ أخبارِ السنين
قرآنُها ما كانَ إلّا نزوةً من بعضِ نزواتِ البنين
هلّت ليالي البؤسِ تغزونا فكنّا الغازئين
ولقد يعودُ بي الزمانُ ويستبدَّ بيَ الأنين
يا صاحبي إنِّي زَمَعتُ الهجرَ عنهُمْ من سنين
لو كنتُ أرضى بالمُقامِ بدارهِم فأنا ضغين
وَجَبَ الفراقُ عن الذي أضنوا على قلبي ضنينْ
سَكَتَ الصديقُ لبُرهةٍ .. في دهشةِ الزَمَنِ الخَوِين!
صاحَ الزمانُ مونوناً -يا ليتَهُ كَتَمَ الونين-:
داهٍ دهاهُ دهرُهُ والدهرُ ما قد دانَ دين
يا سوءَ ما يلقاهُ من تبريرِهِ الحظَّ اللعين

“إنه لشيءٌ حسنٌ أن يرى المرء الجانب المسلّي من إخفاقاته”.

فلاديمير أوليانوف، لينين.

قلتُ ٢٩: كنتُ قد نكبتُ صديقاً لي -أيام كورونا- نكبةً عظيمةً بغير قصد، فأرسل لي في الواتس رسالةً طويلةً يعاتبني فيها، فكتبتُ معتذراً:

“كفارسٍ جحجاح، لم يقصد الإجناح، لا يعرف النواح، محصّنٌ باللقاح؛ أطلبك السماح، وأعدك الإصلاح، ياشيخ امواح”

إلا أن صورة العرض اختفت من رقمه المسجّل عندي بعد رسالتي، ولم يعد يظهر بجوار رسائلي التي أرسلها له إلا صحٌّ واحد، لا أعلم حقيقةً لماذا حذف الواتس من جواله !

“وَقد كان حُسْنُ الظَّنِّ بَعض مَذاهِبي
فأدَّبني هذا الزَّمانُ وأهْلُهُ”

الببغاء، شاعر عباسي مشهور.

قلتُ ٣٠: انتهى كلامي رحمني الله ..

أضف تعليق