قلاقل | هذا الوقت سوف يمضي ..

قلاقل: الحلقة الأخيرة!

قلتُ ٢١: دورة حياة الإنسان مثل دورة حياة عود الحطب، يشتعل في بداية عمره، ثم يبدأ في الاحتراق، ثم يصبح جمرة يلزم التعامل معها بحذر، ثم ينطفئ بعد ذلك ليصبح قطعة فحم، ثم قد يتعرض بعدها إلى حرارة شديدة وضغط عالي تحولانه إلى ألماس؛ لكن الأصل أنّه سيكون رماداً تذروه الرياح.

“وَما المَرءُ إِلّا كَالشِهابِ وَضَوئِهِ
يَحورُ رَماداً بَعدَ إِذ هُوَ ساطِعُ”

لبيد بن أبي ربيعة

قلتُ ٢٢: قادتني ميادين العمل إلى التعرّف على سكرتير رائع، له من الخبرة في السكرتارية التنفيذية ما يزيد عن خمسة عشر عام، عنده كافة الجدارات السلوكية والفنية التي تؤهله للعمل مديراً لمكتب كائنٍ من كان، إلا جدارة الأمانة، ولهذا أقول له دائماً بأنّني سأجعله مديراً لمكتبي في الجنة إن شاء الله عندما تنقّى النفوس من الخطايا وما يشوبها من مساوئ الأخلاق، فهذه الجدارة ضرورية للعمل معي في الدنيا وإن كانت هي فقط ما ينقصه، وهو يتقبّل رأيي بصدر رحب.

المهم، صديقي هذا كان يعمل تحت إمرة كبير مستشارين “يُشار له لاحقاً بالكبير” ذو خلفية ضليعة في الهندسة الكهربائية والإشراف على أعمال الإنشاء والبناء، في مؤسسة استشارية لا علاقة لها بأعمال الإنشاء والبناء، مهندس ميداني لا يشق له غبار كما يُشاع عنه -الكلام لا يزال عن الكبير-، كان عاطلاً عن العمل لثلاث سنوات قبل أن يستقطبه نسيبه للعمل كبيراً لمستشاريه بالمؤسسة التي يرأسها والتي يعمل بها صديقي السكرتير أيضاً، وقد كان الكبير هذا قد وعد صديقي السكرتير بأن يجعله مدير مكتب، وأن يفكّ قيده من السكرتارية التنفيذية، ومن هنا بدأت القصة.

في يوم من الأيام، تفاجأ صديقي بقدوم مديرة مدرسة أهلية إلى اجتماعه اليومي مع الكبير، وعرّفه الكبير في ذلك الاجتماع بها على أنّها مديرة المكتب الجديدة!

خاب أمل صديقي، لكنّه كظم غيظه، وتمالك نفسه حتى انتهى الاجتماع، ثم عاد إلى زميله السكرتير الآخر مخبّباً إياه على المديرة الجديدة: “انتبه من عجوز النار ترا تقرب لهم”، فقرّرا العصيان، ثم استشاراني، كنتُ صادقاً وقلتُ أنّني أغبطهما على هذه التجربة الرائعة التي سيعيشانها، لا سيما وأنَّ المؤشرات واضحة، ناصحاً إياهما بالاستمتاع باللحظة دون أن يمتدّ الأمر إلى ما بعد الساعة الثالثة مساءً، فاتّهماني بالسايكوباثية لأنّني أستمتع بهذه الصراعات؛ وأجعل لها عندي منزلة المسلسلات، فنبذا رأيي.

دقّت ساعة الصفر، وقد كانت المديرة الجديدة -بدعم الكبير- تحظى بسلطة تصرّف مطلقة، لذا بدأت معهما بسياسة حازمة منذ الإشارة الأولى للعصيان، الحرب ولا شيء غير الحرب، مطلقةً لتصريحٍ ظلَّ عالقاً في أذهان موظّفي المؤسسة الاستشارية ذوي الصلة بأنّ هذين الاثنين لا يختلفان كثيراً عن الطالبات اللائي كانت تديرهنّ.

كان رأيها صحيحاً، إذ لم يتطلّب الأمر معهما إلّا شهراً واحداً فقط قبل أن يعلنا السمع والطاعة للمديرة الجديدة، وشهراً آخر ليتزلّفا لها بطريقة مألوفة في ميادين العمل، بزعمهما أنّهما يلتمسان العذر لظروفها النفسية في مرة، وبالفكاك من توجيهات الكبير في مرة، وغيرها من الأعذار المعلّبة في مِرار.

سامحهما الله، من نافلة القول أنّهما غضبا منّي على نحوٍ مبالغٍ فيه عندما أرسلت لهما هذا البيت:

“وَلا تَيأَسا أَن يَمحُوَ اللهُ عَنكُما
ذُنوبًا إِذا صَلَّيتُما حَيثُ صَلَّتِ”

كثيّر عزة.


قلتُ ٢٣:

ما رامَ دَهرِي السِّلمَ مُذْ أدرَكتُهُ‬
‫فتكونُ تُوحشني الحروبُ الآتيةْ‬
‫إنّ المصائبَ لا تُريحُكَ ساعةً‬
‫حتّى تَهولكَ عنوةً بالتاليةْ‬
‫هيهاتَ لو تركتكَ يوماً واحداً‬
‫لمضى خيالاً لا يعودُكَ ثانيةْ‬
‫العيشُ صبرٌ .. والمنيّةُ راحةٌ‬
‫فاصبِر عليها مِن حياةٍ فانيةْ ‬

“مفتاح الانتصار في أي معركة هو الإخلال بإيقاع الخصم”.

ميرويم ساما (ملك النمل).


قلتُ ٢٤: من الكتب التي ألّفتها ولن ترى النور إن شاء الله كتاباً اسمه: “الأليف في علم التجديف”، بدأته بقول الله تعالى: “بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْر۪ىٰهَا وَمُرْسَىٰهَآ”، ثم شرعت في محتواه من تعاريف مصطلحاته، وما لا يسع جهله قبل طلب العلم منه، ثم كيفية إدارة العلاقة بين المجدِّف والمجدوف، وبين إنسان التنفيذ وإنسان التجارب، وغيرها من الأبواب والفصول، وحتى خاتمته التي ناقَشَت ترتيبات منح تراخيص الفهم إلى الآخرين.

والتجديف اصطلاحاً لغرض استيعاب هذه القلقلة، وفي موضوع ذلك الكتاب؛ هو مصطلحٌ استلهمتُهُ من اعتبارٍ مهمٍ في دلالة اللغة: “ابتذال اللفظ يغيّر دلالته”، وقد مثّل لذلك ابن فارس في كتابه مقاييس اللغة: “‏… مثل قولهم تَعَال، أي :اعْلُ، ثم كثرت حتى قالها من كان أسفل لمن كان فوق…”، ومحل الاستلهام هنا هو ابتذال الناس في كلامهم لمصطلح “التنظير”، وكثرة المتصدّين جهلاً لهذه المهمّة المقدّسة، حيث شئت أن أفرّق بين التنظير الهارف، وبين التنظير العارف؛ الذي هو في حقيقته تجديفٌ بين بحور العلم والمعارف والتجارب والقياسات، ولذا سمّيتُ التنظير الشريف؛ علم التجديف.

‏وعلم التجديف هذا علمٌ أزعم -دون دليل- أنّه لم يسبقني إليه أحد، قلتُ (بدون رقم) في وصفه سارقاً كلام ابن خلدون من مقدّمته: “وكأنّه علمٌ مستنبَطُ النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد! ما أدري ألغفلتهم عن ذلك؟ أو لعلهم كتبوا واستوفوا ولم يصل إلينا؟ فالعلوم كثيرة، والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل، فأين علوم الفرس التي أمر الفاروق بمحوها عند الفتح؟ وأين علوم الكلدانيين والسريانيين وأهل بابل، وما ظهر عليهم من آثارها ونتائجها؟ وأين علوم القبط ومن قبلهم؟ إنما وصل إلينا علوم أمة واحدة هم أهل يونان خاصة، لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم، واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين وما بذله من أموال”.

أحسن الله إلينا وإليكم، لعلّ لله حكمة من عدم نشري لهذا الكتاب.

“يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا” سورة هود (٤٢).

قلتُ ٢٥:

على العشرين قد زوّدتُ خَمسَا
وقد أزمعتُها مئةً وخَمسَا

وليست عاجزاتٌ قلقلاتي
ولا أنّي فرضتُ اليومَ مَكسَا

ولكنّّي سأختمُها بقولي:
إذا قلقلتُ؛ هل أفهمتُ إنسَا؟

ا.قـ. (انتهت قلاقلي).

أضف تعليق